الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وهي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. فيها اصطلح أهل السنة والرافضة ببغداد وعملوا الدعوات ودخل بعضهم إلى بعض. وفيها قتل تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق أبو سعيد السلجوقي أخو السلطان ملكشاه. كان أولا في المشرق فاستنجده أتسز الخوارزمي صاحب الشام فقدم دمشق وقتل أتسز المذكور واستولى على الشام وامتدت أيامه. وهو الذي قتل آق سنقر وبوزان ثم خالف على ابن أخيه بركياروق بن ملكشاه ووقع بينهما أمور آخرها في هذه السنة كانت بينهما وقعة هائلة على الري. وكان لما قتل آق وبوزان أخذ جماعة من أمرائهما فقتلتهم بين يديه وكان بكجور من أكابر الأمراء فقتل أولاده بين يديه صبرًا وهرب بكجور إلى بركياروق. فلما انتصر على الري جاء بكجور إلى السلطان بركياروق وهو يبكي فقال: قد قتل عمك أولادي وأنا قاتله بأولادي فقال: افعل. وكان تتش قد وقف بالقلب مقابل ابن أخيه السلطان بركياروق فقصده الأمير بكجور المذكور وطعنه فألقاه عن فرسه فنزل سنقرجه - وكان أيضًا صاحب ثأر - فحز رأسه وقيل رماه مملوك بوزان بسهم في ظهره فوقع منه وانهزم أصحابه وطيف برأسه. وأسر وزيره فخر الملك علي بن نظام الملك فعفا عنه السلطان بركياروق وفخر الملك وزير تتش وهما ابنا نظام الملك. ثم وقع أيضًا لأولاد تاج الدولة تتش هذا أمور وفتن بعد موت أبيهم وهم رضوان وأخوته على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توفي عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار أبو يوسف القزويني شيخ المعتزلة. كان إمامًا في فنون فسر القرآن في سبعمائة مجلد - وقيل في أربعمائة وقيل ثلاثمائة - وكان الكتاب وقفًا في مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه. وكان رحل إلى مصر وأقام بها أربعين سنة. وكان محترمًا في الدول ظريفًا حسن العشرة صاحب نادرة. قيل: إنه دخل على نظام الملك الوزير وكان عنده أبو محمد التميمي ورجل آخر أشعري فقال له القزويني: أيها الصدر قد اجتمع عندك رؤوس أهل النار. قال نظام الملك وكيف ذلك قال: أنا معتزلي وهذا مشبه يعني التميمي وذلك أشعري وبعضنا يكفر بعضًا فضحك النظام. وقيل: إنه اجتمع مع ابن البراج متكلم الشيعة فقال له ابن البراج: ما تقول في الشيخين فقال: سفلتين ساقطين. قال: من تعني قال: أنا وأنت. وكانت وفاة القزويني هذا في ذي القعدة وقد بلغ ستًا وتسعين سنة ودفن بمقابر الخيزران عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وفيها توفي محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد أبو عبد الله بن أبي نصر الخميلي الأندلسي. كان من جزيرة ميورقة. ولد قبيل الأربعمائة وسمع الكثير ورحل إلى الأقطار ثم استوطن بغداد. وكان مختصًا بصحبة ابن حزم الظاهري وحمل عنه أكثر كتبه. قال ابن ماكولا: صديقنا أبو عبد الله الخميمي من أهل العلم والفضل ورد بغداد وسمع أصحاب الدارقطني وابن شاهين وفيها توفي منصور بن نصر الدولة بن مروان صاحب ميافارقين وكان استولى على الجزيرة فمات بها فحمل إلى آمد فدفن بقية بنتها له زوجته ست الناس بنت عميد الأمة. وأول ولاية بني مروان لديار بكر في سنة ثمانين وثلاثمائة واستولى الوزير ابن جهير على بلادهم سنة تسع وسبعين وأربعمائة ومات منصور في هذه السنة. فكانت ولايتهم نيفًا ومائة سنة. وأعيان ملوكهم أولهم باد الكردي وبعده مروان وهو جدهم ثم بعده ولده أحمد ثم بعده ولده نظام الدين ثم ولداه سعيد ومنصور هذا. وفيها توفي محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش السلطان المعتمد على الله أبو القاسم ابن السلطان المعتضد بالله أبي عمرو ابن الفقيه قاضي إشبيلية ثم سلطانها الظافر ابن المؤيد بالله أبي العباس بن أبي الوليد اللخمي من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة. كان المعتمد هذا صاحب إشبيلية وقرطبة. وأصلهم من بلد العريش التي كانت في أول رمل مصر. وكان المعتمد عالمًا ذكيًا شاعرًا عادلا في الرعية كان من محاسن الدنيا. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا. وهي سنة تسع وثمانين وأربعمائة. فيها حكم المنجمون بأن يكون طوفان مثل طوفان نوح عليه السلام. فسأل الخليفة ابن عيسون المنخم فقال: أخطأ المنجمون طوفان نوح قد اجتمع في برج الحوت الطوالع السبعة والآن قد اجتمع فيه ستة زحل لم يجتمع معها ولكني أقول: إن بقعة من البقاع يجتمع بها عالم من بلاد كثيرة فيغرقون. فقيل: ما ثم أكبر من بغداد ويجتمع فيها ما لا يجتمع في غيرها وربما كانت هي فقال ابن عيسون: لا أدري غير ما قلت. فأمر الخليفة بإحكام المسنيات وسد الفروج وكان الناس يتوقعون الغرق فوصل الخبر بأن الحاج نزلوا في واد عند نخلة فأتاهم سيل عظيم وأخذ الجميع بالجمال والرجال وما نجا منهم إلا من تعلق برؤوس الجبال. فخلع الخليفة على ابن عيسون وأجرى له الجراية وأمن الناس. وفيها ورد كتاب المستعلي صاحب مصر وكتاب وزيره الأفضل أمير الجيوش إلى رضوان بن تتش السلجوقي بالدخول في الطاعة. فأجاب وخطب للمستعلي صاحب الترجمة. وفيها خرج العسكر المصري إلى الساحل ونزل على صور وفتحوها عنوة وأخذوا منها أموالا عظيمة وكان بها رجل يعرف بالكتيلة فأسر وحمل إلى مصر. وفيها سار الأفضل أمير الجيوش المذكور من مصر بالعساكر إلى القدس وكان به سكمان بن أرتق وأخوه إيلغازي فحصر البلد ونصب عليها المجانيق وقاتلهم أربعين يومًا وأرسل أهل القدس فواطؤوه على فتح الباب وطلبوا منه الأمان فأمنهم وفتحوا له الباب وخرج سكمان من باب آخر ومضى إلى الرها ومضى أخوه إيلغازي إلى بغداد. وهما أول ملوك الارتقية ظهورًا. وفيها تواترت الأخبار بخروج ملك الروم من بلاد الروم بقصد البلاد الشامية. وفيها قتل رضوان ابن تاج الدولة تتش السلجوقي وقتل ولده ونهبت داره. وكان ظالمًا فاتكًا. كان استوزر أبا الفضل بن الموصلي مشير الدين. وفيها توفي عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله أبو حكيم الخيري - وخير: إحدى بلاد فارس - وهو جد أبي الفضل بن ناصر لأبيه. تفقه على أبي إسحاق الشيرازي وبرع في الفرائض وله فيها مصنف. وكان فقيهًا صالحًا حسن الطريقة. وفيها توفي عبد الرزاق بن عبد الله بن المحسن أبو غانم التنوخي المعري. كان فاضلا شاعرًا. ومن شعره في كوز فقاع: الوافر ومحبوس بلا ذنب جناه له سجن بباب من رصاص يضيق بابه خوفًا عليه ويوثق بعد ذلك بالعفاص إذا أطلقته خرج ارتقاصا وقبل فاك من فرح الخلاص وفيها توفي منصور بن محمد بن عبد الجبار الشيخ أبو المظفر السمعاني جد أبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور صاحب الذيل. وكان أبو المظفر هذا من أهل مرو وتفقه على مذهب أبي حنيفة حتى برع ثم ورد بغداد وانتقل لمذهب الشافعي لمعنى من المعاني ورجع إلى بلده فلم يقبلوه وقام عليه العوائم فخرج إلى طوس ثم قصد نيسابور. وصنف التفسير والبرهان والاصطلام والقواطع في أصول الفقه وغير ذلك. ومات في شهر ربيع الأول بمرو. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وسبع عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ثلاث عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا. السنة الثالثة من خلافة المستعلي أحمد وهي سنة تسعين وأربعمائة. فيها أخذت الفرنج نيقية وهي أول بلد أخذوه ثم أفتحوا حصون الدورب شيئًا بعد شيء كما ذكرناه مفصلا في أول ترجمة المستعلي هذا. وفيها توفي المعمر بن محمد بن المعمر بن أحمد بن محمد أبو الغنائم الحسيني الطاهر ذو المناقب نقيب الطالبيين. مات بالكرخ فحمل إلى مقابر قريش فدفن بها. وكان من كبار الشيعة. وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيدرة ولقب بالرضي ذي الفخرين. وفيها توفي نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم أبو الفتح الفقيه القدسي الشافعي. أصله من نابلس وأقام بالقدس مدة ودرس بها. وكان فقيهًا عابدًا زاهدًا ورعًا. مات في المحرم من هذه السنة. وفيها توفي يحيى بن أحمد السيبي. مات في شهر ربيع الآخر وعاش مائة وثلاثًا وخمسين سنة وثلاثة أشهر وأيامًا وكان صحيح الحواس يقرأ عليه القرآن ويسمع الحديث ورحل الناس إليه. وكان ثقة صالحًا صدوقًا. وفيها قتل الملك أرسلان أرغون ابن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقماق السلجوقي بمرو كان قد حكم على خراسان. وسبب قتله أنه كان مؤذيًا لغلمانه جبارًا عليهم فوثب عليه رجل منهم فقتله بسكين. وكان قد ملك مرو ونيسابور وبلخ وترمذ وأساء السيرة وخرب أسوار مدن خراسان وصادر وزيره عماد الملك ابن نظام الملك وأخذ منه ثلاثمائة ألف دينار ثم قتله. أمر النيل في هذه السنة: السنة الرابعة من خلافة المستعلي أحمد وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. فيها تواترت الشكايات من الفرنج وكتب السلطان بركياروق السلجوقي إلى العساكر يأمرهم بالخروج مع عميد الدولة للجهاد وتجهز سيف الدولة صدقة وبعث مقدماته إلى الأنبار. ثم وردت الأخبار إلى بغداد بأن الفرنج ملكوا إنطاكية وساروا إلى معرة النعمان في ألف ألف إنسان فقتلوا وسبوا حسب ما ذكرنا في أول ترجمة المستعلي هذا. وفيها عزل السلطان بركياروق وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك عن وزارته واستوزر أخاه فخر الملك. وكان مؤئد الملك في غاية من العقل والفضل وحسنه التدبير وفخر الملك بعكس ذلك كفه. فلحق مؤيد الملك بأخي بركياروق محمد بن ملكشاه وأطمعه في الملك. وكان عزل مؤيد الملك بإشارة مجد الملك القمي المستوفي. وفيها خرج محمد بن ملكشاه المذكور على أخيه بركياروق. وكان لملكشاه عدة أولاد منهم بركياروق السلطان بعده وأمه زبيدة ومحمود وأمه خاتون ومحمد شاه هذا الذي خرج وسنجر ومحمد وسنجر هما أخوان لأب وأم. وكان محمد هذا رباه أخوه بركياروق وأقطعه كنجة وأعمالها ورتب معه شخصًا كالأتابك واسمه أيضًا محمد فوثب عليه محمد شاه وقتله لكونه كان يحجز عليه ولا يبت أمرًا حتى يراجع بركياروق. ووافق ذلك مجيء مؤيد الملك بن نظام الملك إليه فجرت له مع أخيه بركياروق حروب ووقائع. وفيها توفي طراد بن محمد بن علي أبو الفوارس الزينبي العباسي الهاشمي. هو من ولد زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. ولد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وسمع الكثير وزحل الناس إليه من الأقطار وأملى بجامع المنصور وحج سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأملى بمكة والمدينة وولي نقابة العباسيين بالبصرة وكانت له رياسة وجلالة. ومات في شوال وقد جاوز تسعين سنة. وفيها توفي نصر بن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ أبو المرهف الكناني عز الدولة. ملك شيزر بعد أبيه وقام بتربية أخوته أحسن قيام. وفيه يقول أبوه علي بن المقلد من قصيدة: الطويل جزى الله نصرًا خير ما جزيت به رجال قضوا فرض العلا وتنفلوا ومنها: سألقاك يوم الحشر أبيض واضحًا وأشكر عند الله ما كنت تفعل إلى الله أشكو من فراقك لوعة توقد في الأحشاء ثم ترحل ومن شعر نصر هذا: الخفيف كنت أستعمل البياض من الأم - - شاط عجبًا بلمتي وشبابي فاتخذت السواد في حالة الشي - - ب سلوا عن الصبا بالتصابي وفيها توفي الحافظ أبو العباس أحمد بن بشرويه الأصبهاني الإمام المحدث. مات وله ست وتسعون سنة. وكان إمامًا حافظًا سمع الحديث وروى عنه غير واحد وكان من أئمة المحدثين. رحمه الله تعالى. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وثماني عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وست عشرة إصبعًا. السنة الخامسة من خلافة المستعلي أحمد وهي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. فيها استولى الفرنج على بيت المقدس في يوم الجمعة ثالث عشر شعبان حسب ما ذكرناه في وفيها توفي السلطان إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب عزنة وغيرها من بلاد الهند. كان ملكًا عادلا منصفًا منقادًا إلى الخير كثير الصدقات كان لا يبني لنفسه مكانًا حتى يبني لله مسجدًا أو مدرسة. قال الفقيه أبو الحسن الطبري: أرسلني إليه بركياروق في رسالة فرأيت في مملكته ما لا يتأتى وصفه. ومات في شهر رجب وقد جاوز السبعين. وأقام ملكًا نيفًا وأربعين سنة. وفيها توفي الشيخ عبد الباقي بن يوسف بن علي بن صالح أبو تراب المراغي الفقيه الشافعي. كان إمامًا فقيهًا زاهدًا مدرسًا. مات في ذي القعدة عن اثنتين وتسعين سنة وقد انتهت إليه رياسة العلم بنيسابور. وفيها توفي علي بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضي أبو الحسن الموصلي الأصل المصري الفقيه الشافعي المعروف بالخلعي. ولد بمصر في أول سنة خمس وأربعمائة وسمع الحديث الكثير ورواه وكان مسند الديار المصرية في وقته. ومات في ذي الحجة. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم مكي بن عبد السلام الرميلي ببيت المقدس شهيدًا حين أخذته الفرنج في شعبان واستشهد به عالم لا يحصى. وكان إمامًا محدثًا حافظًا. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع واثنتان وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا. السنة السادسة من خلافة المستعلي أحمد وهي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. فيها عادت الخطبة ببغداد باسم بركياروق بعد الخليفة وكان بطل اسمه وخطب لأخيه محمد شاه وهذا بعد أن وقع بينهما حروب إلى أن ملك بركياروق وأخرج أعوان محمد شاه من بغداد. وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن علي بن صابر أبو القاسم السلمي الدمشقي ويعرف بابن سيده. ولد سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ومات في شهر ربيع الآخر بدمشق. وأنشد: الوافر صبرًا لحكمك أيها الدهر لك أن تجور ومتى الصبر آليت لا أشكوك مجتهدًا حتى يردك من له الأمر وفيها توفي محمد بن سلطان بن محمد بن حيوس أبو الفتيان الأمير الشاعر. ولد سنة إحدى وأربعمائة وهو من بيت الفضل والعلم والرياسة. ومات في شهر رجب وقد لكم أن تجوروا معرضين وتغضبوا وعادتكم أن تزهدوا حين تغضبوا جنيتم علينا واعتذرنا إليكم ولولا الهوى لم يسأل الصفح مذنب وفيها توفي الوزير محمد بن محمد بن محمد بن جهير الصاحب شرف الدين عميد الدولة. كان حسن التدبير كافيًا في المهام شجاعًا جوادًا عظيمًا في الدول. وزر للخليفة القائم ثم من بعده للمقتفي فعزله بأبي شجاع ثم أعاده المستظهر فدبر أموره ثماني سنين وأحد عشر شهرًا وأربعة أيام. وكان له ترسل بديع وتوقيعات وجيزة وأشعار رقيقة. ومدحه شعراء عصره وفيه يقول أبو منصور علي بن الحسن المعروف بصردر الشاعر قصيدته العينية المشهورة التي أولها: الكامل قد بان عذرك والخليط مودع وهوى النفوس مع الهوادج يرفع وفيها توفي يحيى بن عيسى بن جزلة أبو علي المتطبب صاحب المنهاج في الطب. كان نصرانيًا يقرأ على أبي علي بن الوليد المعتزلي فلم يزل يدعوه إلى الإسلام حتى أسلم وحسن إسلامه. واستخدمه أبو الحسن قاضي القضاة في كتب السجلات. وكان يطب أهل محلته بغير عوض ويعود الفقراء ويحسن إليهم. ووقف كتبه على مشهد أبي حنيفة - رضي الله عنه. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم عشر أذرع وست عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وخمس عشرة إصبعًا. السنة السابعة من خلافة المستعلي أحمد وهي سنة أربع وتسعين وأربعمائة. فيها قتل السلطان بركياروق خلقًا من الباطنية وكانوا ثلاثمائة ونيفًا وكتب إلى الخليفة بالقبض على من اتهم أنه منهم. وفيها التقى بركياروق مع أخيه محمد شاه وكان مع محمد شاه خمسة عشر ألفًا ومع بركياروق خمسة وعشرون ألفًا فاقتتلوا قتالا شديدًا قتل من الفريقين عدة كبيرة فانهزم محمد شاه وهرب وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك فتبعه غلمان بركياروق وأخذوه وجاءوا به إلى بركياروق فقام وضرب عنقه بيده. ومضى محمد شاه واستجار بأخيه سنجر شاه فأرسل سنجر شاه إلى بركياروق يسأله فيه فقال بركياروق: لا بد أن يطأ بساطي. ثم وقع أمور وانتصر سنجر شاه لأخيه محمد شاه ولا زال حتى دخل محمد بغداد وخطب له بها وتوخه بركياروق إلى واسط. وفيها توفي محمد بن منصور أبو سعد شرف الملك المستوفي الخوارزمي. كان جليل القدر فاضلا نبيلا متعصبًا لأصحاب أبي حنيفة - رضي الله عند - وهو الذي بنى على أبي حنيفة القبة والمدرسة الكبيرة بباب الطاق - وقد قدمنا ذكره في وفاة أبي حنيفة في هذا الكتاب - وبنى أيضًا مدرسة بمرو ووقف فيها كتبًا نفيسة وبنى الرباطات في المفاوز وعمل خيرات كثيرة. ثم انقطع في آخر عمره. وبذل لملكشاه مائة ألف دينار حتى أعفاه من الخدمة. ومات بأصبهان في جمادى الآخرة. وفيها قتل أبو المحاسن وزير بركياروق. كان قد نقم على أبي سعد فركب بعد ذلك وسار على باب أصبهان فوثب عليه غلام أبي سعيد الحداد فقتله وأخذ بثأر أستاذه. فأمر بركياروق بسلخ الغلام فسلخ وعلق. وفيها توفي الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد بن الأخرم المديني المؤذن. كان إمامًا محدثًا فاضلا. مات في المحرم وله تسع وثمانون سنة. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وثماني عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وسبع أصابع. السنة التي حكم في أولها المستعلي أحمد ثم الآمر ولده. فيها جلس الخليفة المستظهر بالله أحمد العباسي لمحمد شاه وسنجر شاه ابني ملكشاه جلوسًا عامًا ودخلا عليه وقبلا الأرض له فأدناهما وأفاض عليهما الخلع وتوجهما وطوقهما وسورهما وقرأ الخليفة: " . . " الآية. ثم خرجا إلى قتال أخيهما بركياروق فوقع بينهما وقائع وحروب أسفرت عن نصرة بركياروق وانهزام محمد شاه. وفيها قبض بركياروق على الكيا الهراسي الفقيه الشافعي لأنه بلغه عنه أنه باطني شيعي فكتب الخليفة إليه ببراءة ساحته حسن عقيدته ودينه فأطلقه. وفيها كانت وفاة صاحب الترجمة المستعلي بالله أحمد كما تقدم ذكره في ترجمته. وفيها توفي حسين بن ملاعب جناح الدولة صاحب حمص. كان أميرًا مجاهدًا شجاعًا يباشر الحروب بنفسه. دخل جامع حمص يوم الجمعة فصفى الجمعة فوثب عليه ثلاثة من الباطنية فقتلوه. وكان سبب قتله أنه كان عند رضوان بن تتش ملك حلب منجم باطني وهو أول من أظهر مذهب الباطنية بالشام فندب لقتل جناح الدولة هذا أولئك النفر. ثم قتل المنجم بحلب بعد ذلك بأربعة عشر يومًا. وفيها توفي الشيخ أبو العلاء صاعد بن سيار الكناني الهروي الفقيه العالم المشهور. كان إمامًا فقيهًا مفتيًا مدرسًا صالحًا ثقة. الماء القديم سبع أذرع وثماني أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث عشرة إصبعًا. خلافة الآمر بأحكام الله على مصر الآمر اسمه منصور وكنيته أبو علي ولقبه الآمر بأحكام الله بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر بالله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدي عبيد الله العبيدي الفاطمي السابع من خلفاء مصر من بني عبيد والعاشر منهم ممن ملك بالمغرب. قال الحافظ أبو عبد الله شمس الذين محمد الذهبي في تاريخ الإسلام: كان رافضيًا كآبائه فاسقًا ظالمًا جبارًا متظاهرًا بالمنكر واللهو ذا كبر وجبروت وكان مدبر سلطانه الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش. ولي الآمر وهو صبي فلما كبر قتل الأفضل وأقام في الوزارة المأمون أبا عبد الله محمد بن مختار بن فاتك البطائحي فظلم وأساء السيرة إلى أن قبض عليه الأمر سنة تسع عشرة وخمسمائة وصادره ثم قتله في سنة اثنتين وعشرين وصلبه وقتل معه خمسة من أخوته. وفي أيام الآمر أخذ الفرنج عكا سنة سبع وتسعين وأربعمائة وأخذوا طرابلس في سنة اثنتين وخمسمائة فقتلوا وسبوا وجاءتها نجمة المصريين بعد فوات المصلحة وأخذوا عرقة وبانياس. وتسلموا في سنة إحدى عشرة وخمسمائة تبنين وتسلموا صور سنة ثماني عشرة وأخذوا بيروت بالسيف في سنة ثلاث وخمسمائة وأخذوا صيداء سنة أربع وخمسمائة. ثم قصد الملك بردويل الإفرنجي مصر ليأخذها ودخل الفرما وأحرق جامعها ومساجدها فأهلكه الله قبل أن يصل إلى العريش. فشق أصحابه بطنه وصبروه ورموا حشوته هناك فهي ترجم إلى اليوم بالسبخة ودفنوه بقمامة. وهو الذي أخذ بيت المقدس وعكا وعدة حصون من السواحل. وهذا كله بتخلف هذا المشؤوم الطلعة. وفي أيامه ظهر ابن تومرت بالغرب. وولد الآمر في أول سنة تسعين وأربعمائة واستخلف وله خمس سنين وبقي في الملك تسعًا وعشرين سنة وتسعة أشهر إلى أن خرج من القاهرة يومًا في ذي القعدة وعدى على الجسر إلى الجزيرة فكمن له قوم بالسلاح. فلما عبر نزلوا عليه بأسيافهم وكان في طائفة يسيرة فردوه إلى القصر وهو مثخن بالجراح فهلك من غير عقب. وهو العاشر من أولاد المهدي عبيد الله الخارج بسجلماسة. وبايعوا بالآمر ابن عمه الحافظ أبا الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بالله. وكان الآمر ربعة شديد الأدمة جاحظ العينين حسن الخط جيد العقل والمعرفة. وقد ابتهج بقتله لفسقه وسفكه للدماء وكثرة مصادرته واستحسانه الفواحش. وعاش خمسًا وثلاثين سنة. وبنى وزيره المأمون بالقاهرة الجامع الأقمر. انتهى كلام الذهبي برمته. ونذكر إن شاء الله قتله وأحواله بأوسع مما قاله الذهبي من أقوال جماعة من المؤرخين أيضًا. وقال العلامة أبو المظفر من مرآة الزمان: لما كان يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة خرج من القاهرة يعني الآمر وأتى الجزيرة وعبر بعض الجسر فوثب عليه قوم فلعبوا عليه بالسيوف - وقيل: كانوا غلمان الأفضل - فحمل في مركب إلى القصر فمات في ليلته وعمره أربع وثلاثون سنة - وزاد غيره فقال: وتسعة أشهر وعشرون يومًا - وكانت أيامه أربعًا وعشرين سنة وشهرًا. قلت: وهم صاحب مرآة الزمان في قوله: وكانت مدته أربعًا وعشرين سنة وشهرًا. والصواب ما قاله الذهبي فإنه وافق في ذلك جمهور المؤرخين. ولعل الوهم يكون من الناسخ. وما آفة الأخبار إلا رواتها. قال أعني صاحب مرآة الزمان: ومولده سنة تسعين وأربعمائة. قلت: وزاد غيره وقال: في يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم. قال: وكانت سيرته قد ساءت بالظلم والعسف والمصادرة. قال: ولما قتل الآمر وثب غلام له أرمني فاستولى على القاهرة وفرق الأموال في العساكر وأراد أن يتآمر على الناس فخالفه جماعة ومضوا إلى أحمد بن الأفضل يعني الوزير فعاهدوه وجاءوا به إلى القاهرة فخرج الغلام الأرمني فقتلوه وولوا أبا الميمون عبد المجيد بن محمد بن المستنصر وولي الخلافة ولقبوه بالحافظ ووزر له أبو علي أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش وسماه أمير الجيوش. فأحسن إلى الناس وأعاد إليهم ما صادرهم به الآمر وأسقطه فأحبه الناس فحسده مقدمو الدولة فاغتالوه. وقيل: إن الآمر لم يخلف ولدًا وترك امرأة حاملا فماج أهل مصر وقالوا: لا يموت أحد من أهل هذا البيت إلا ويخلف ولدًا ذكرًا منصوصة عليه الإمامة وكان قد نص على الحمل قبل موته فوضعت الحامل بنتًا فعدلوا إلى الحافظ وانقطع النسل من الآمر وأولاده. وهذا مذهب طائفة من شيعة المصريين فإن الإمامة عندهم من المستنصر إلى نزار. وكان نقش خاتم الآمر هذا الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين. وابتهج الناس بقتله. انتهى كلام صاحب مرآة الزمان أيضًا برمته. قلت: ونذكر إن شاء الله قتلة الآمر هذا بأوسع من هذا في آخر ترجمته بعد أن نذكر أقوال المؤرخين في أمره. وقال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان - رحمه الله -: وكان الآمر سيئ الرأي جائر السيرة مستهترًا متظاهرًا باللهو واللعب. وفي أيامه أخذت الفرنج مدينة عكا - ثم ذكر ابن خلكان نحوًا مما ذكره الذهبي من أخذ الفرنج للبلاد الشامية. إلى أن قال: - خرج من القاهرة يعني الآمر صبيحة يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ونزل إلى مصر وعدى على الجسر إلى الجزيرة التي قبالة مصر يعني الروضة فكمن له قوم بالأسلحة وتواعدوا على قتله في السكة التي يمر فيها إلى فرن هناك. فلما مر بها وثبوا عليه ولعبوا عليه بالسيوف وكان قد جاوز الجسر وحده في عدة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصته وشيعته فحمل في زورق في النيل ولم يمت وأدخل القاهرة وهو حي وجيء به إلى القصر فمات من ليلته ولم يعقب. وكان قبيح السيرة ظلم الناس وأخذ أموالهم وسفك الدماء وارتكب المحظورات واستحسن القبائح وابتهج الناس بقتله. انتهى كلام ابن خلكان. وقيل: إن الآمر كان فيه هوج عند طلوعه المنبر في خطبته في الجمع والأعياد فاستحيا وزيره المأمون بن البطائحي أن يشافهه بما يقع له من الهوج وأراد أن يفهمها له من غير مشافهة فقال له: يا مولانا قد مضى من الشهر أيام ولم يبق إلا الركوب إلى الجمعة الأولى قلت: وقد تقدم في ترجمة المعز لدين الله ترتيب خروج الخلفاء الفاطميين إلى صلاة الجمعة. ويصلوا بالناس ثلاث جمع والجمعة الأولى من كل شهر يصلي بالناس الخطيب وتسمى تلك الجمعة جمعة الراحة - أعني يستريح فيها الخليفة - ونستطرد في هذه الترجمة أيضًا لذكر شيء من ذلك مما لم نذكره في قال الوزير: يا مولانا وبعد غد جمعة الراحة فإن حسن في الرأي أن يخرج مولانا بحاشيته خاصة من باب النوبة إلى القصر النافعي فما فيه سوى عجائز وقرائب وألزام ويجلس مولانا على القبة التي على المحراب قبالة الخطيب ليشاهد نائبه في الخطابة كيف يخطب فإنه رجل شريف فصيح اللسان حافظ القرآن. فأجابه الخليفة الآمر إلى ذلك. ولما حضر الجامع وجاس في القبة وفتح الروشن وقام الخطيب فخطب فهو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية وإذا بالهوى قد فتح الطاق فرفع الخطيب رأسه فوقع وجهه في وجه الخليفة فعرفه فأرتج عليه وارتاع ولم يدر ما يقول حتى فتح عليه فقال: معاشر المسلمين نفعكم الله وإياي بما سمعتم وعن الضلال عصمكم. قال الله تعالى في كتابة العزيز: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان. . . ". إلى آخر الآية وصفى بالناس. فلما انفصل المجلس تكلم الآمر مع وزيره المذكور بما وقع للخطيب. فانفتح الكلام للوزير وتكلم فيما كان بصدده فرجع الآمر عن الخطابة واستناب وزيره المذكورة فصار الوزير يخطب بجامع القاهرة وجامع ابن طولون وجامع مصر. وقال ابن أبي المنصور في تاريخه: إن ابتداء خطبة الوزير المأمون كانت في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وترك الآمر الخطابة مع ما كان له في ذلك من الرغبة الزائدة حتى إنه كان اقترح أشياء أخرى في خروجه إلى الجامع زيادة على ما كانت آباؤه تفعله غير أنه كان يخطب في الأعياد بعد ما استناب وزيره المأمون ابن البطائحي في خطبة الجمع. فكان الآمر إذا خرج في خطبة العيد خرج إلى المصلى ويخرجون قبله على العادة السابقة المذكورة في ترجمة المعز بالفرش والآلات وعلق بالمحاريب الشروب المذهبة وفرش فيه ثلاث سجادات متراكبة وبأعلاها السجادة اللطيفة التي كانت عندهم معظمة وهي قطعة من حصير ذكر أنها كانت من حصير لجعفر الصادق - رضي الله عنه - يصلي عليها وكانت مما أخذه الحاكم بأمر الله عند فتح دار جعفر الصادق. ثم تغلق الأبواب الثلاثة التي بجنب القبة التي في صدرها المحراب. - قلت: والذي ذكرناه في ترجمة المعز لدين الله كانت صلاته بالجامع الأزهر والآمر هذا كانت صلاته في الجمعة بالجامع الحاكمي وفي العيد بالمصلى. . ونذكر أيضًا هيئة خروج الآمر إلى الجامع بنحو ما ذكرناه هناك وزيادة أخرى لم نذكرها فبهذا المقتضى يكون للإعادة نتيجة - قال: ثم تفرش أرض القبة المذكورة جميعًا بالحصر المحاريب المبطنة ثم تعلق الستور بالمحراب وجانبي المنبر ويفرش درجه وينصب اللواءان ويعلقان عليه ويقف متولي ذلك والقاضي تحت المنبر ويطلق البخور ويتقدم الوزير بألا يفتح الباب أحد وهو الباب الذي يدخل الخليفة منه ويقف عليه ويقعد الداعي في الدهليز ويقرأ المقرئون بين يديه ويدخل الأمراء والأشراف والشهود والشيوخ ولا يدخل غيرهم إلا بضمان من الداعي. فإذا استحقت الصلاة أقبل الخليفة في زيه الذي ذكرناه في ترجمة المعز لدين الله وقضيب الملك بيده وجميع أخوته وبنو عمه في ركابه. فعند ذلك يتلقاه المقرئون ويرجع من كان حوله من بني عمه وأخوته وأستاذوه. ويخرج من باب الملك إلى أن يصل إلى باب العيد فتنشر المظلة عليه - وقد ذكرنا أيضًا زي المظلة في ترجمة المعز - ويترتب الموكب في دعة لا يتقدم أحد ولا يتأخر عن مكانه وكذلك وراء الموكب العماريات - هم عوض المحفات - والزرافات والفيلة والأسود عليها الأسرة مزينة بالأسلحة. ولا يدخل من باب المصلى أحد راكبًا إلا الوزير خاصة ثم يدخل الباب الثاني فيترجل الوزير ويتسلم شكيمة فرس الخليفة حتى ينزل الخليفة ويمشي إلى المحراب والقاضي والداعي عن يمينه ويساره يوصلان التكبير لجماعة المؤذنين. وكاتب الدست وجماعة الكتاب يصلون تحت عقد المنبر لا يمكن غيرهم أن يكون معهم. ويكثر في الأولى سبعًا وفي الثانية خمسًا على سنة القوم ثم يطلع الوزير ثم يسلم الدعو القاضي فيستدعي من جرت عادته بطلوع المنبر وكل لا يتعدى مكانه. ثم ينزل الخليفة بعد الخطبة ويعود في أحسن زي على هيئة خروجه من رحبة باب العيد حتى يأكل الناس السماط. وقد ذكرنا كيفية السماط وزي لبس الخليفة والمظلة وصفة ركوبه وطلوعه إلى المنبر ونزوله في ترجمة المعز لدين الله أول خلفائهم فينظر هناك من هذا الكتاب. قلت: وكان الأمر يتناهى في العظمة ويتقاعد عن الجهاد. وما قاله الذهبي في ترجمته فبحق فإنه مع تلك المساوي التي ذكرت عنه كان فيه تهاون في أمر الغزو والجهاد حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه وإن كان وقع لأبيه المستعلي أيضًا ذلك وأخذ القدس في أيامه فإنه اهتم لقتال الفرنج وأرسل الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش بالعساكر فوصلوا بعد فوات المصلحة بيوم. فكان له في الجملة مندوحة بخلاف الآمر هذا فإنه لم ينهض لقتال الفرنج البتة وإن كان أرسل مع الأسطول عسكرًا فهو كلا شيء. وسنبين ذلك عند استيلاء الفرنج على طرابلس وغيرها على سبيل الاختصار في هذا المحل فنقول: أول ما وقع في أيامه من طمع الفرنج في البلاد فإنهم خرجوا في أول سنة سبع وتسعين وأربعمائة من الرهاء وانقسموا قسمين قسم قصد حران وقسم قصد الرقة. فالذي توخه إلى الرقة خرج لهم سكمان بن أرتق صاحب ماردين وكان سالم بن بدر العقيلي في بني عقيل وقد نزلوا على رأس العين فخرج بهم سكمان المذكور والتقوا مع الفرنج واقتتلوا قتالا شديدًا أسر فيه سالم بن بدر المذكور ثم كانت الدائرة على الفرنج فانهزموا وقتل منهم خلق كثير. والقسم الآخر من الفرنج الذي قصد حران والبلاد الشامية لم ينهض لقتالهم وصالحهم ابن عمار قاضي طرابلس وصاحبها وهادنهم على أن يكون لصنجيل ملك الفرنج ظاهر البلد وألا يقطع الميرة عنها وأن يكون داخل البلد لابن عمار. وهلك في أثناء ذلك صنجيل المذكور ملك الروم. ولم ينهض أحد من المصريين لقتال المذكورين. فعلمت الفرنج ضعف من بمصر. ثم بعد ذلك في سنة اثنتين وخمسمائة قصد الفرنج طرابلس وأخذوها بعد أن اجتمع عليها ملوك الفرنج مع بلترام بن صنجيل المقدم ذكره في ستين مركبًا في البحر مشحونة بالمقاتلة وطنكري الفرنجي صاحب إنطاكية وبغدوين الفرنجي صاحب القدس بمن معهم جاءوا من البر وشرعوا في قتالها وضايقوها من أول شعبان إلى حادي عشر ذي الحجة وأسندوا أبراجهم إلى سور البلد. فلما رأى أهل طرابلس ذلك أيقنوا بالهلاك مع تأخر أسطول مصر عنهم. ثم حضر أسطول مصر من البحر. وصار كلما سار نحو البلد رده الفرنج إلى نحو مصر. قلت: ومن هذا يظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه. الأول: من تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة. والثاني: لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الفرنج من البحر عن البلد على حسب الحال. والثالث: لم لا خرج الوزير الأفضل بن أمير الجيوش بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر الجمالي في أوائل الأمر. هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة. فلله الأمر من قبل ومن بعد. ولله در السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فيما فعله في أمر الجهاد وفتح البلاد كما يأتي ذلك كله إن شاء ثم إن الفرنج لما علموا بحال أهل طرابلس وتحققوا أمرهم حملوا حملة رجل واحد في يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة وهجموا على طرابلس فأخذوها ونهبوها وأسروا رجالها وسبوا نساءهم وأخذوا أموالها وذخائرها وكان فيها ما لا يحصى ولا يحصر واقتسموها بينهم. وطمعوا في الغنائم فساروا إلى جبلة وبها فخر الملك بن عمار الذي كان صاحب طرابلس وقاضيها وتسلموها منه بالأمان في ثاني عشر ذي الحجة في يوم واحد وخرج منها ابن عمار سالمًا. ثم وصل بعد ذلك الأسطول المصري بالعساكر فوجدوا البلاد قد أخذت فعادوا كما هم إلى مصر. وسار ابن عمار إلى شيزر فأكرمه صاحبها سلطان بن علي بن منقذ واحترمه وعرض عليه المقام عنده فأبى وتوجه إلى الأمير طغتكين صاحب دمشق فأكرمه طغتكين وأنزله وأقطعه الزبداني وأعماله. ثم وقع بين بغدوين صاحب القدس وبين طغتكين المذكور أمور حتى وقر الاتفاق بينهما على أن يكون السواد وجبل عوف مثلثة الثلث للفرنج والباقي للمسلمين. ثم انقضى ذلك في سنة خمس وخمسمائة. وقصد بغدوين الفرنجي المذكور صور فكتب واليها وأهلها إلى طغتكين يسألونه أنهم يسلمونها إليه قبل مجيء الفرنج لأنهم يئسوا من نصرة مصر فأبى وبعث إليهم الفرسان والرجالة وجاءهم هو من جبل عاملة ثم عاد. ثم سار إليهم بغدوين في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة فقطع أشجارها وقاتلها أيامًا وهو يعود خاسرًا. وخرج طغتكين وخيم ببانياس وجهز الخيالة والرجالة إلى صور نجدة فلم يقدروا على الدخول إليها من الفرنج. ثم رحلت الفرنج عنها ونزلوا على الحبيس وهو حصن عظيم وحاصروه حتى فتحوه عنوة وقتلوا كل من كان فيه ثم عاد بغدوين إلى صور وشرع في عمل الأبراج وأخذ في قتالها والزحف في كل يوم. فلما بلغ ذلك طغتكين زحف عليهم ليشغلهم فخندق عليهم وهجم الشتاء فلم يبال الفرنج به لأنهم كانوا في أرض رملة والميرة تصل إليهم من صيدا في المراكب. ثم ركب طغتكين البحر وسار إلى نحو صيداء وقتل جماعة من الفرنج وغرق مراكبهم وأوصل مكاتبته إلى أهل صور فقوى قلوبهم. ثم عمل الفرنج برجين عظيمين طول الكبير منهما زيادة على خمسين ذراعًا وطول الصغير زيادة على أربعين ذراعًا وزحفوا بهما أول شهر رمضان وخرج أهل صور بالنفط والقطران ورموا النار فهبت الريح فاحترق البرج الصغير بعد المحاربة العظيمة ونهب منه زرديات وطوارق وغير ذلك ولعبت النار في البرج الكبير أيضًا فأطفأها الفرنج. ثم إن الفرنج طموا الخندق وواتروا الزحف طول شهر رمضان وأشرف أهل البلد على الهلاك. فتحيل واحد من المسلمين له خبرة بالحرب فعمل كباشًا من أخشاب تدفع البرج الذي يلصقونه بالسور. ثم تحيل في حريق البرج الكبير حتى أحرقه وخرج المسلمون فأخذوا منه آلات وسلاحًا. فحينئذ يئس الفرنج من أخذها ورحلوا عنها بعد ما أحرقوا جميع ما كان لهم من المراكب على الساحل والأخشاب والعمائر والعلوفات وغيرها. وجاءهم طغتكين فما سلموا إليه البلدة فقال طغتكين: أنا ما فعلت الذي فعلته إلا لله تعالى لا لرغبة في حصن ولا مال ومتى دهمكم عدوكم جئتكم بنفسي وبرجالي ثم رحل عنهم - فلله عزه من ملك - كل ذلك ولم تأت نجدة المصريين. ودام الأمر بين أهل صور والفرنج تارة بالقتال وتارة بالمهادنة إلى أن طال على أهل صور الأمر ويئسوا من نصرة مصر فسلموها للفرنج بالأمان في سنة ثماني عشرة وخمسمائة. قلت: وما أبقى أهل صور - رحمهم الله تعالى - ممكنًا في قتالهم مع الفرنج وثباتهم في هذه السنين الطويلة مع عدم المنجد لهم من مصر. وقيل في أخذ صور وجه آخر. قال ابن القلانسي: وفي سنة تسع عشرة وخمسمائة ملك الفرنج صور بالأمان. وسببه خروج سيف الدولة مسعود منها وكان قد حمل إلى مصر وأقام الوالي الذي بها في البلد. قلت: وهذه زيادة في النكاية للمسلمين من صاحب مصر فإن سيف الدولة المذكور كان قائمًا بمصالح المسلمين وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم وحفظ سور المدينة هذه المدة الطويلة فأخذوه منها غصبًا وخلوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج. فكان حال المصريين في أول الأمر أنهم تقاعدوا عن نصرة المسلمين والآن بأخذهم سيف الدولة من صور صاروا نجدة للفرنج. وهذا ما فعله إلا الآمر هذا صاحب الترجمة بنفسه بعد أن قبض على الأفضل ابن أمير الجيوش وقتله وقتل غيره أيضًا معه. ونعود إلى كلام ابن القلانسي قال: وعرف الفرنج يعني بخروج سيف الدولة فتأهبوا للنزول عليها وعرف الوالي أنه لا قبل له بهم لقلة النجدة والميرة بها فكتب إلى صاحب مصر يخبره. فكتب إليه: قد رددنا أمرها إلى ظهير الدين - أظنه يعني بظهير الدين طغتكين المقدم ذكره أمير دمشق - قال: ليتولى حمايتها والذب عنها وبعث منشورًا له بها. ونزل الفرنج عليها وضايقوها بالحصار والقتاله حتى خفت الأقوات وجاء طغتكين فنزل ببانياس وتواترت المكاتبات إلى مصر باستدعاء المؤن فتمادت الأيام إلى أن أشرف أهلها على الهلاك. ولم يكن للأتابك طغتكين قدرة على دفع الفرنج ويئس من مصر فراسل أهلها الفرنج وطلبوا الأمان على نفوسهم وأهاليهم وأموالهم ومن أراد الخروج خرج ومن أراد الإقامة أقام. وجاء الأتابك بعسكره فوقف بازاء الفرنج وركبت الفرنج ووقفوا بازائه وصاروا صفين وخرج أهل البلد يمرون بين الصفين ولم يعرض لهم أحد وحملوا ما أطاقوه ومن ضعف منهم أقام. فمضى بعضهم إلى دمشق وبعضهم إلى غزة وتفرقوا في البلاد وعاد الأتابك إلى دمشق. ودخل الفرنج صور وملكوها سنين إلى حين فتحت ثانيًا حسب ما سيأتي ذكره في ترجمة السلطان الذي يتولى فتحها. قلت: وهذا الذي ذكرناه هو كالشرح لكلام الذهبي وغيره من المؤرخين فيما ذكروه عن الأمر هذا. ونعود إلى ترجمة الآمر. وكان للآمر نظم ونظر في الأدب. ومما نسب إليه من الشعر قوله: السريع أصبحت لا أرجو ولا أتقي إلا إلهي وله الفضل جدي نبي وإمامي أبي ومذهبي التوحيد والعدل وقد نسب هذا الشعر لغيره من الفاطميين أيضًا وكان الآمر يحفظ القرآن انفرد بذلك دون جميع خلفاء مصر من الفاطميين وكان ضعيف الخط. وأما ما وعدنا به من ذكر قتله فنقول: كان الآمر صاحب الترجمة مطلوبًا من جماعة من أعوان عمه نزار المقتول بيد أبيه بعد واقعة الإسكندرية المقدم ذكرها لأن الآمر وأباه المستعلي غصبًا الخلافة وأن النص كان على نزار. وقد ذكرنا ذلك كله في أول ترجمة المستعلي. فاتصل بالآمر أن جماعة من النزارية حصلوا بالقاهرة ومصر يريدون قتله فاحترز الآمر على نفسه وتحيل في قبضهم فلم يقدر له ذلك لما أراده الله. وفشا أمر النزارية وكانوا عشرة فخافوا أن يقع. عليهم الآمر فيقتلهم قبل قتله فاجتمعوا في بيت وقال بعضهم لبعض: قد فشا أمرنا ولا نأمن أن يظفر بنا فيقتلنا ومن المصلحة والرأي أن نقتل وأحدًا منا ونلقي رأسه بين القصرين وحلانا عندهم فإن عرفوه فلا مقام لنا عندهم وإن لم يعرفوه ثم لنا ما نريد لأن القوم في غفلة. فقالوا للذي أشار عليهم: ما يتسع لنا قتل واحد منا ينقص عددنا وما يتم بذلك أمرنا فقال الرجل: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته فقالوا نعم. فقال: وما دللتكم إلا على نفسي وشرع في قتل نفسه بيده بسكين في جوفه فمات من وقته. فأخذوا رأسه فرموه في الليل بين القصرين وأصبحوا متفرقين ينظرون ما يجري في البلد بسبب الرأس. فلما وجد الرأس اجتمع عليه الناس وأبصروه فلم يقل أحد منهم أنا أعرفه. فحمل إلى الوالي فأحضره الوالي عرفاء الأسواق وأرباب المعايش فلم يعرف فأحضر أيضًا أصحاب الأرباع والحارات فلم يعرف ففرح التسعة بذلك ووثقوا بالمقام بالقاهرة لقضاء مرادهم. واتفق للخليفة الآمر أن يمضي إلى الروضة - حسب ما ذكر في أول ترجمته - وأنه يجوز على الجسر الذي من مصر إلى جزيرة الروضة للمقام بها أيامًا للفرجة. وكان من شأن الخلفاء أنهم يشيعون الركوب في أرباب خدمتهم حيثما قصدوا حتى لا يتفرقوا عنه وأيضًا لا يتخفف أحد عن الركوب فعلم النزارية التسعة بركوبه فجاءوا إلى الجزيرة ووجدوا قبالة الطالع من الجسر فرنًا فدخلوا فيه قبل مجيء الخليفة الآمر ودفعوا إلى الفران دراهم وافرة ليعمل لهم بها فطيرًا بسمن وعسل ففرح الفران بها وعمل لهم الفطير فما هو بأكثر مما أكلوه ولم يتموا أكلهم إذ طلع الخليفة الآمر من آخر الجسر وقد تفلل عنه الركابية ومن يصونه لحرج الجواز على الجسر لضيقه فلما قابلوه وثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه بالسكاكين حتى إن واحدًا منهم ركب وراءه وضربه عدة ضربات وأدركهم الناس فقتل التسعة. وحمل الآمر في عشاري إلى قصر اللؤلؤة وكان ذلك في أيام النيل ففاضت نفس الآمر قبل وصوله إلى اللؤلؤة. وقد تقدم عمر الآمر ومدة خلافته في أول ترجمته فلا حاجة لذكر ذلك ثانيًا. وقيل: إن بعض منجميه كان عرفه أنه يموت مقتولا بالسكاكين فكان الآمر كثيرًا ما يلهج بقوله: الآمر مسكين المقتول بالسكين.
|